سورة الحجرات - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجرات)


        


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 49/ 11- 13].
ينهى اللّه تعالى عن السخرية واحتقار الناس، والنهي يفيد التحريم، فيا أيها المصدقون بالله ورسوله، لا يهزأ رجال من آخرين، فربما كان المهزوء به عند اللّه خيرا من المستهزئ أو الساخر، ولا تهزأ نساء من نساء أخريات، فلربما كانت المهزوء بها أفضل وأكرم عند اللّه من المستهزئة، ولا يطعن ولا يعب بعضكم بعضا بقول أو فعل أو إشارة، ولا تتداعوا بالألقاب التي يسوء الشخص سماعها، ساء الوصف الذي يوصف به الرجل: وهو الفسق والفجور، بعد اتصافه بالإيمان، فالإيمان فضيلة زاجرة عن ضده وهو الفسق والكفر، ومن لم يتب عما نهى اللّه عنه من هذه الأوصاف الثلاثة (وهي السخرية، واللمز أو التعييب، والتنابز بالألقاب) فهو من الظالمين أنفسهم وغيرهم، لأن الإصرار على المنهي عنه كفر وظلم.
قال الضحاك: نزلت في وفد بني تميم الذين نزلت الآية الأولى من سورة الحجرات فيهم، استهزءوا بفقراء الصحابة، مثل عمار وخبّاب وابن فهيرة وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم، لما رأوا من رثاثة حالهم، فنزلت في الذين آمنوا منهم.
وآية {وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ} نزلت كما قال ابن عباس في صفية بنت حييّ بن أخطب، أتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالت: يا رسول اللّه، إن النساء يعيّرنني، ويقلن لي: يا يهودية بنت يهوديين!! فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «هلا قلت: إن أبي هارون، وإن عمي موسى، وإن زوجي محمد» فأنزل اللّه هذه الآية.
وآية {وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ} نزلت- كما أخرج أصحاب السنن الأربعة عن أبي جبيرة بن الضحاك- قال: كان الرجل منا يكون له الاسمان والثلاثة، فيدعى ببعضها، فعسى أن يكرهه، فنزلت: {وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ}.
ثم أمر اللّه باجتناب سوء الظن، وحرمه، فيا أيها المصدقون بالله ورسوله، ابتعدوا عن كثير من الظن، فبعض الظن وهو ظن السوء بأهل الخير موقع في الإثم، لنهي اللّه عنه، وكل رشيد يحترس من سوء الظن ويسد ذرائعه، ثم نهى اللّه عن التجسس، فلا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم، وتذيعوا أسرارهم ومثالبهم، والتجسس: البحث عما هو مكتوم، من العيوب. والتحسس: البحث عن الأخبار، والاستماع لحديث القوم وهم له كارهون، ثم حرم اللّه الغيبة: وهي ذكرك أخاك بما يكره، فلا يذكر بعضكم بعضا في غيبته بما يسيء إليه، صراحة أو إشارة، لما فيه من الأذى بالمغتاب، وهو يتناول كل ما يؤذي الآخرين، سواء في الدين أو الدنيا، في الخلق أو الخلق، في المال أو الولد أو الزوجة أو الخادمة أو اللباس ونحو ذلك.
وشبه اللّه تعالى الغيبة بأكل لحم الإنسان الميت للتنفير، وهو ما يكرهه كل إنسان، وإذا كان يكرهه، فالغيبة مثله، فهي كأكل جثة الإنسان، وهذا تنفير وتوبيخ وتقبيح شديد، فضلا عن كونه محرما شرعا، أي إن الغيبة حرام شراعا، وقبيحة عقلا وعرفا ودينا.
أخرج ابن المنذر عن ابن جريح قال: زعموا أن آية {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} نزلت في سلمان الفارسي، أكل ثم رقد، فذكر رجل أكله ورقاده، فنزلت.
وتجوز الغيبة عند رفع الظلم وفي الشهادة والقضاء والاستشارة والتحذير من الفاسق، ثم جاءت آية الشعوب الإنسانية، فيا أيها الناس- والنداء هنا بصفة الناس وما قبلها بصفة الإيمان- لقد خلقناكم جميعا من أصل واحد، ومن نفس واحدة، من آدم وحواء، فأنتم متساوون، لأن نسبكم واحد، وأباكم واحد، وأمكم واحدة، فلا تفاخر بالأنساب، فالكل سواء، وقد جعلناكم شعوبا (أمما كبيرة) وقبائل دونها للتعارف لا للتناكر، ولا للتفاخر بالأنساب، إن أكرمكم وأفضلكم عند اللّه بالتقوى أو بعمل صالح، فدعوا التناكر والتفاخر، إن اللّه عليم بكم وبأعمالكم، خبير بأحوالكم وأموركم.
أخرج الترمذي والدارمي وأحمد عن أبي بكر: «قيل: يا رسول اللّه، من خير الناس؟ قال: من طال عمره، وحسن عمله».
وحكى الزهراوي: أن سبب نزول هذه الآية غضب الحارث بن هشام، وعتّاب ابن أسيد، حين أذن بلال يوم فتح مكة على الكعبة.
الإيمان والإسلام:
لا تنهض الأمة كلها ولا ترتقي، أو تسمو طفرة واحدة، وإنما تحتاج لفترة زمنية أو تدرج زمني لتشمل التربية جميع أفرادها وجماعاتها، وهكذا كان شأن الأمة الإسلامية في صدر الإسلام، لم يكن الجميع على المنهج الأفضل المطلوب، وإنما هناك تفاوت، فالذين لازموا الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم استناروا بأدبه وأدب القرآن، والذين بعدوا عنه، لم يتنوروا بعد بأخلاق الإسلام، لذا بعد أن حرض القرآن على التقوى، قالت الأعراب (جماعة من سكان البادية وهم بنو أسد) أول ما دخلوا في الإسلام: لنا النسب الشريف، فلنا الشرف، فذمّهم اللّه تعالى، وأوضح ضعف إيمانهم، كما تصور الآيات الآتية:


{قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)} [الحجرات: 49/ 14- 18].
آية {قالَتِ الْأَعْرابُ} نزلت- كما ذكر الواحدي عن مجاهد- في نفر من بني أسد ابن خزيمة، قدموا المدينة في سنة جدبة، وأظهروا الشهادتين، ولم يكونوا مؤمنين في السرّ، وكانوا يقولون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، فأعطنا من الصدقة، وجعلوا يمنون عليه، فأنزل اللّه تعالى فيهم هذه الآية.
والمعنى: قال جماعة من الأعراب سكان البادية، وهم بنو أسد أول ما دخلوا الإسلام: صدقنا بالله ورسوله وآمنا في قلوبنا، فقال اللّه لهم: { لَمْ تُؤْمِنُوا} أي لم تصدقوا بقلوبكم، ولكن قولوا: أسلمنا، أي انقدنا لك يا رسول اللّه، واستسلمنا، وسالمناك فلا نحاربك، والإيمان بعد لم يدخل في قلوبكم، واللّه كثير المغفرة لمن تاب وأناب وأخلص العمل، واسع الرحمة فلا يعذب بعد التوبة.
دلت الآية على أن الإيمان: الذي هو التصديق بالقلب مع اطمئنان النفس أخص من الإسلام: الذي هو الاستسلام والانقياد لله تعالى، الذي يعصم أو يحقن الدم. ثم بيّن القرآن حقيقة الإيمان، إنما المؤمنون الإيمان الخالص: هم الذين صدقوا بالله ورسوله تصديقا تاما في القلب، وإقرارا باللسان، ثم لم يشكوا ولم يترددوا في إيمانهم، بل ثبتوا على حال واحدة، وهي التصديق المحض بالحق مع الاطمئنان النفسي، والأمن الذاتي، وجاهدوا بالأموال والأنفس حق الجهاد، من أجل طاعة اللّه وابتغاء رضوانه، قاصدين بجهادهم وجه اللّه وإعلاء كلمته ودينه، أولئك المتصفون بهذه الصفات المذكورة هم الصادقون في إيمانهم.
ثم أمر اللّه تعالى نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم بتوبيخهم وبيان حقيقة أمرهم بقوله: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} أي قل أيها الرسول لهم: أتخبرون اللّه بما في ضمائركم من الدين، أو بقولكم: {آمَنَّا} وهو يعلم منكم خلاف ذلك، لأنه العليم بكل شيء في السماوات والأرض وما بينهما، فكيف يجهل حقيقة ما تدّعونه من الإيمان؟
ثم ذكر اللّه سبحانه أن إسلامهم لم يكن لله، فإنهم يمتنون بإسلامهم، أي يعدّون إسلامهم منّة ونعمة عليك أيها النبي، حيث قالوا: جئناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، أي إنا آمنّا بك، واتّبعناك ولم نحاربك، كما فعلت محارب وحصفة وهوازن وغطفان وغيرهم، فنزلت هذه الآية فيهم، أي في بني أسد، كما حكى الطبري وغيره.
قل أيها النبي: لا تعدّوا أيها الأعراب إسلامكم منّة علي، فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم، بل اللّه يمتن عليكم، حين وفقكم للإيمان، بزعمكم إذ تقولون: آمنا، فقد لزمكم أن اللّه تعالى مانّ عليكم إن صدقتم في ادعائكم الإيمان. وفي هذا إيماء إلى أنهم كاذبون في ادعائهم الإيمان.
ثم أكد اللّه تعالى علمه بكل شيء بقوله: { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} أي إن اللّه تعالى عليم بما ظهر وما غاب في جميع أنحاء السماوات والأرض، ومن جملة ذلك: ما يسّره كل إنسان في نفسه، واللّه مطلع على كل شيء من أعمالكم، فهو مجازيكم بالخير خيرا، وبالشر شرا، وهذه الآية تؤكد الإخبار بعلم اللّه بجميع الكائنات، وبصره بأعمال المخلوقات، ليترسخ ذلك في الأذهان ويستقر في أصائل القلوب.
لقد أوضحت هذه الآيات: أن المؤمنين هم الذين يصدقون بقلوبهم أن اللّه تعالى هو الخالق والقادر والعالم بكل شيء، والرازق صاحب الفضل، والذي لا أول له ولا نهاية، وكل شيء هالك إلا وجهه، وهم يصدقون برسالة رسول اللّه وأنه خاتم النبيين، وإمام المرسلين، والمبلغ وحي ربه عليه، وأنه عبد اللّه ورسوله إلى الناس جميعا، لا إلى العرب خاصة، ولم يشكّوا في شيء، وإنما كان إيمانهم كالجبال الرواسي راسخا في القلب، ويقينا تاما لا يشوبه شيء، وأنهم يجاهدون في سبيل اللّه جهادا بالنفس والمال.
وأما الإسلام: فهو الإعلان باللسان عن أركانه، من النطق بالشهادتين، وتنفيذ واجباته، من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا.

1 | 2