{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 49/ 11- 13].ينهى اللّه تعالى عن السخرية واحتقار الناس، والنهي يفيد التحريم، فيا أيها المصدقون بالله ورسوله، لا يهزأ رجال من آخرين، فربما كان المهزوء به عند اللّه خيرا من المستهزئ أو الساخر، ولا تهزأ نساء من نساء أخريات، فلربما كانت المهزوء بها أفضل وأكرم عند اللّه من المستهزئة، ولا يطعن ولا يعب بعضكم بعضا بقول أو فعل أو إشارة، ولا تتداعوا بالألقاب التي يسوء الشخص سماعها، ساء الوصف الذي يوصف به الرجل: وهو الفسق والفجور، بعد اتصافه بالإيمان، فالإيمان فضيلة زاجرة عن ضده وهو الفسق والكفر، ومن لم يتب عما نهى اللّه عنه من هذه الأوصاف الثلاثة (وهي السخرية، واللمز أو التعييب، والتنابز بالألقاب) فهو من الظالمين أنفسهم وغيرهم، لأن الإصرار على المنهي عنه كفر وظلم.قال الضحاك: نزلت في وفد بني تميم الذين نزلت الآية الأولى من سورة الحجرات فيهم، استهزءوا بفقراء الصحابة، مثل عمار وخبّاب وابن فهيرة وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم، لما رأوا من رثاثة حالهم، فنزلت في الذين آمنوا منهم.وآية {وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ} نزلت كما قال ابن عباس في صفية بنت حييّ بن أخطب، أتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالت: يا رسول اللّه، إن النساء يعيّرنني، ويقلن لي: يا يهودية بنت يهوديين!! فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «هلا قلت: إن أبي هارون، وإن عمي موسى، وإن زوجي محمد» فأنزل اللّه هذه الآية.وآية {وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ} نزلت- كما أخرج أصحاب السنن الأربعة عن أبي جبيرة بن الضحاك- قال: كان الرجل منا يكون له الاسمان والثلاثة، فيدعى ببعضها، فعسى أن يكرهه، فنزلت: {وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ}.ثم أمر اللّه باجتناب سوء الظن، وحرمه، فيا أيها المصدقون بالله ورسوله، ابتعدوا عن كثير من الظن، فبعض الظن وهو ظن السوء بأهل الخير موقع في الإثم، لنهي اللّه عنه، وكل رشيد يحترس من سوء الظن ويسد ذرائعه، ثم نهى اللّه عن التجسس، فلا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم، وتذيعوا أسرارهم ومثالبهم، والتجسس: البحث عما هو مكتوم، من العيوب. والتحسس: البحث عن الأخبار، والاستماع لحديث القوم وهم له كارهون، ثم حرم اللّه الغيبة: وهي ذكرك أخاك بما يكره، فلا يذكر بعضكم بعضا في غيبته بما يسيء إليه، صراحة أو إشارة، لما فيه من الأذى بالمغتاب، وهو يتناول كل ما يؤذي الآخرين، سواء في الدين أو الدنيا، في الخلق أو الخلق، في المال أو الولد أو الزوجة أو الخادمة أو اللباس ونحو ذلك.وشبه اللّه تعالى الغيبة بأكل لحم الإنسان الميت للتنفير، وهو ما يكرهه كل إنسان، وإذا كان يكرهه، فالغيبة مثله، فهي كأكل جثة الإنسان، وهذا تنفير وتوبيخ وتقبيح شديد، فضلا عن كونه محرما شرعا، أي إن الغيبة حرام شراعا، وقبيحة عقلا وعرفا ودينا.أخرج ابن المنذر عن ابن جريح قال: زعموا أن آية {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} نزلت في سلمان الفارسي، أكل ثم رقد، فذكر رجل أكله ورقاده، فنزلت.وتجوز الغيبة عند رفع الظلم وفي الشهادة والقضاء والاستشارة والتحذير من الفاسق، ثم جاءت آية الشعوب الإنسانية، فيا أيها الناس- والنداء هنا بصفة الناس وما قبلها بصفة الإيمان- لقد خلقناكم جميعا من أصل واحد، ومن نفس واحدة، من آدم وحواء، فأنتم متساوون، لأن نسبكم واحد، وأباكم واحد، وأمكم واحدة، فلا تفاخر بالأنساب، فالكل سواء، وقد جعلناكم شعوبا (أمما كبيرة) وقبائل دونها للتعارف لا للتناكر، ولا للتفاخر بالأنساب، إن أكرمكم وأفضلكم عند اللّه بالتقوى أو بعمل صالح، فدعوا التناكر والتفاخر، إن اللّه عليم بكم وبأعمالكم، خبير بأحوالكم وأموركم.أخرج الترمذي والدارمي وأحمد عن أبي بكر: «قيل: يا رسول اللّه، من خير الناس؟ قال: من طال عمره، وحسن عمله».وحكى الزهراوي: أن سبب نزول هذه الآية غضب الحارث بن هشام، وعتّاب ابن أسيد، حين أذن بلال يوم فتح مكة على الكعبة.الإيمان والإسلام:لا تنهض الأمة كلها ولا ترتقي، أو تسمو طفرة واحدة، وإنما تحتاج لفترة زمنية أو تدرج زمني لتشمل التربية جميع أفرادها وجماعاتها، وهكذا كان شأن الأمة الإسلامية في صدر الإسلام، لم يكن الجميع على المنهج الأفضل المطلوب، وإنما هناك تفاوت، فالذين لازموا الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم استناروا بأدبه وأدب القرآن، والذين بعدوا عنه، لم يتنوروا بعد بأخلاق الإسلام، لذا بعد أن حرض القرآن على التقوى، قالت الأعراب (جماعة من سكان البادية وهم بنو أسد) أول ما دخلوا في الإسلام: لنا النسب الشريف، فلنا الشرف، فذمّهم اللّه تعالى، وأوضح ضعف إيمانهم، كما تصور الآيات الآتية: